رأي الوطن
خيرية هذه الأمة لا تزال حاضرة عند عدولها

**
لم تكن أمة على قدر كبير من التفضيل والتبجيل والتمييز بالفضائل والصفات الحسنة مثلما هو حال هذه الأمة التي كتب الله لها صفة الخيرية حين قال في محكم كتابه "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، وخصها بالشريعة الإسلامية الخالدة الخاتمة، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الأمة ورسالتها الإسلامية السمحة الخالدة لم تسلما من محاولات التشويه والدس عليهما المقصودة والممنهجة، وقد بلغت هذه المحاولات ذروتها في العصر الحديث، بسبب تكالب الأمم بقيادة القوى الاستعمارية الإمبريالية والتي جعلت من تشويه الإسلام ورسالته السمحة وبث سموم الفرقة والتشرذم والخلافات الطائفية والمذهبية مدخلًا لها لتتسيد وتستولي على ما تريده. ولم يكن أشق على هذه الأمة ورسالتها الإسلامية الخالدة من أن يظهر من بين ظهرانيها من ينتسبون إليها وينتسبون إلى دينها الخالد ممسكين بمقود التشويه والدس الغربي، سائقين هذه الأمة إلى ما يريده لها أعداؤها من هلاك للحرث والنسل.
ولكن على الرغم من تفشي ظاهرة الغلو والتطرف والإقصاء وانتشارها كالوباء في جسد هذه الأمة، فإن خيرية هذه الأمة لا تزال حاضرة عند عدولها الذين قال عنهم المصطفى عليه الصلاة والسلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". هؤلاء العدول الذين خصهم رسول الهداية والرحمة بالذكر، هم الذين تتشرف السلطنة هذه الأيام باستقبالهم واحتضانهم تحت قبة ندوة تطور العلوم الفقهية "فقه رؤية العالم والعيش فيه ـ المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة"، والذين سيتولون تفنيد محدثات الأمور وبدعها، ويردون على زيف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين بالحجة والدليل، وبالدراسة والبحث المعمقين من خلال محاورها الثمانية التي تلامس الواقع بقضه وقضيضه، ومن ألفه إلى يائه، حيث يتحدث المحور الأول عن المصطلحات والمفاهيم مثل الجهاد والقتال والموالاة والمحادَّة، وأهل الذمة والعهد والجزية والحرب وغيرها التي أصابها ما أصابها من التحريف والتأويل من قبل ثلة أخضعت الدين لأهوائها وجهلها، فبات لزامًا أن تصحح وتجلى ملابساتها في سياقاتها الإنسانية والحضارية والاجتماعية، وكم الناس بحاجة ماسة إلى استجلاء الحقيقة حول مبدأ التعايش بين البشر على اختلاف دياناتهم وأعراقهم وحقوقهم، وتعميق مفهوم الذات الإنسانية ومفهوم حق المواطنة والتسامح، وتأصيل العلاقة بين البشر بعضهم بعضًا بحكم طبعهم المدني وفطرتهم الاجتماعية التي تقتضي التمازج والتماهي مع كافة الأطياف والمجتمعات، بغض النظر عن ما إذا كانت موافقة أو مخالفة في الدين والمعتقد، والاسترشاد في ذلك بالآيات القرآنية ومن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام في تعامله مع مخالفيه، حيث إنه في ظل الهجرة لطلب العلم أو العمل أو بسبب ظروف الأمن والاستقرار يهاجر المرء كيانًا وتراثًا وفكرًا، وهو بهذه الهجرة يشكل أقلية في البلد الذي هاجر إليه، ما يستوجب حقوقًا، وتمثل حالة التعايش بين أتباع مذهب ومذهب آخر حالة فريدة تدلل على مدى سماحة الإسلام ودور الفقه الإسلامي في ضبط إيقاع هذا التعايش بما يفيد الفقه الإسلامي ويثريه، وهذا ما ستفصل فيه بقية محاور الندوة.
إن الفقه الإسلامي يمثل علامة بارزة وواضحة ودليلًا على حيوية الدين الإسلامي واستمراره، وقدرته على مواكبة كل القضايا المستجدة في كل عصر ومصر، وكون هذا الدين كرسالة خاتمة وخالدة فمن مقتضيات خلود الرسالة أن تستوعب كل الأحوال التي تعتري حياة أتباعها.