[frame="3 10"]
يقول الإمام ابن القيم رحمة الله عليه: {إن فى القلب طاقة لا يسدها إلا حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم} جعل الله فى قلب كل مؤمن طاقة لا تُسد إلا بحب رسول الله فمن بددها فى حب الدنيا والأهواء والشهوات والحظوظ والملذات تعب فى دنياه وكان غير موفق فى أُخراه لأنه يدخل فى قول الله: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الزخرف36

وذِكْر الرحمن فى الحقيقة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله يقول فى كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الجمعة9
أى المذكِّر الذى يذكركم بالله وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل الله: (فاسعوا إلى الصلاة) وإنما قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}

فذِكْر الله فى الحقيقة هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو المذكِّر الذى يذكرنا بالله وبأيام الله ويذكرنا بما علينا نحو الله ، وبالأيام التى نحن مقبلون عليها من أيام البرزخ والآخرة والسعادة الأبدية فى جوار الله ، هذا المُذكر لابد أن يكون له النصيب الأعظم فى القلوب.

وقد حكم صلى الله عليه وسلم - وحكمه نافذ – أنه لا يتمُّ الإيمان إلا إذا كان هذا الحب الموجود لحضرته فى قلوبنا أغلى عندنا وأنفس من نفوسنا ومالنا وأولادنا وكل شئ لنا أو حولنا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم فى ذلك: {لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}{1}
ولا يؤمن هنا معناها لا يؤمن الإيمان الكامل

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لسيدنا عمر وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِه: {أَتُحِبُّني يَا عُمَر؟ قَالَ: لأنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُل شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسِي ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبيُّ: الآْنَ يَا عُمَرُ}{2}
أى الآن قد وصلت إلى تمام الإيمان

وتمام الإيمان يصل إليه الإنسان إذا كان حب النبى العدنان صلى الله عليه وسلم كما وصفنا أغلى عليه من كل غالى فى هذه الدنيا ، وقد ذكر الله ما يشغل الإنسان فى دنياه فى آية عظيمة قال فيها: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} التوبة24

أى لابد وأن يكون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب الله أغلى من كل ذلك ، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سره قال فيه صلى الله عليه وسلم: {أَحِبُّوا اللّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللّهِ ، وَأحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بحُبِّي}{3}

فحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزينة التى زيَّنه بها الله والأخلاق الكريمة التى جمَّله بها مولاه والمنن العظمى التى لا تُعد ولا تحد والتى أفاضها عليه مولاه ، فحبه فى الحقيقة هو حب لله وذلك لأننا نحب الأوصاف التى جمَّله بها الله والمنن التى أكرمه بها الله والكمالات التى كمَّله بها مولاه ، إذاً حبه فى الحقيقة حب لله لأن لله المنَّة فى الأولى وفى الآخرة

هذا الحب لابد أن ينمو ويزيد حتى يصل الإنسان إلى كمال الإيمان ، فما الدليل على كمال الإيمان: الدليل أن يأتيه النبى العدنان ليبشره بأنه قد استكمل الإيمان ، فرؤية النبى صلى الله عليه وسلم هى البرهان لأهل الإيمان على استكمال الإيمان وعلى بلوغ الإنسان تمام الإيمان

إما إذا كانت رؤية رسول الله والإنسان على حال غير مرضية لله ، فرؤية رسول الله فى هذه الحالة هى رؤية هنا منبهة ومذكرة للإنسان لأنه فى حالة معصية أو سهو أو غفلة ، ولكن مثل هذا الإنسان يكون له نصيب من تمام الإيمان مادام أن الذى نبَّهه وأيقظه وأخذ بيده هو رسول الله ، وهذا دليل على أنه سيبلغ كمال الإيمان إن شاء الله.

فإذا رأى الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك دليل على كمال الإيمان ، ولذلك كان من وظيفته التى ذكرها الله فى القرآن: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً{45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً{46} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً{47} الأحزاب

وتبشير المؤمنين لم يحدده الله بأنهم المؤمنين فى زمانه وفى عصره وأوانه ولكن المؤمنين إلى يوم الدين ، يبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمال الإيمان ، وقد يتحمل الرجل منا هذا المقام ويبشره حضرة النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام وهو بيننا يمشى ويسعى على الأقدام

وقد يتحمل الرجل مقاماً أعظم من ذلك ، فبعد أن يكرمه النبى صلى الله عليه وسلم برؤياه فى المنام يلوح له فى العيان ولكن ذلك لصنف مخصوص خصهم الله بالصفاء الكبير ، وأذكر فى هذا المقام سيدى إبراهيم المتبولى رضي الله عنه - وكان من أهل الجذب الشديد وكانت أمه من الصالحات – وقد حكى لها ما رآه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام ، فماذا قالت له؟ اسمعوا ، قالت له: {يا بنى لا تبلغ مقام الرجولية حتى ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اليقظة وليس فى المنام} فما زال يتعرض لفضل الله حتى رآه صلى الله عليه وسلم فى اليقظة عياناً بياناً ، فقالت له أمه عندها: {الآن قد بلغت مقام الرجولية}

ولا أقول يجد ويكد ويسعى ، لأن هذا مقام لا يُنال بالجد ولا بالسعى ولا بالكد ولكنه فضل من الله ، والله ذو فضل عظيم وإنما كل ما عليك أن تتعرض لفضل الله ، والتعرض لفضل الله يكون كما قلنا آنفاً - ونعيد بإيجاز لأن هذا الأمر يضل فيه الكثيرون يقولون نوالها بالفضل وليس بالجد أو الكد فيتكاسلون وينامون وينتظرون فضل الله والسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ولكن نوالها بالتعرَّض لسحائب الفضل الهاطلة من سماوات الكرم الربانى والفيض الإلهى:

فالتعرض لفضل الله يكون بوضوح ، بتطهير السريرة وتنقية البصيرة حتى تصلح لنزول هذه الأنوار المضيئة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلُّ فى قلب فيه عيب ولا يحلُّ فى روح عبد تعلقت بالفانى ولكن يحل فى القلوب التى خلت من العيوب ويحل فى الأرواح التى تعلقت بطلعة المنعم الفتاح عز وجل ، هل هناك وضوح أكثر من ذلك

إذاً التعرض هو أن أطهِّر السريرة وأطهِّر القلب وأجعله صالحاً لهذه الأنوار ونوال الطهارة الكلية على الله ، لكن الله لا يرجو منا إلا النيَّة ، والبداية النيَّة ، والبداية: {إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات}{4}

المهم أن ينوى الإنسان نيَّة صادقة وبعد النيَّة الصادقة عليه أن يبدأ ، والباقى يكمله الله ، ويكفينا فرحاً وفخراً وتيهاً وشرفاً قول الله فى الحديث القدسى: {إذا تقرَّب العبد إليّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذِراعاً ، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقرَّبتُ منه باعاً ، وإذا أتاني مشياً أتيتُهُ هَرْوَلَةً}{5}


{1} صحيح مسلم عن أبى هريرة {2} عن أَبي عقيلٍ عن جَدهِ، الحاكم فى المستدرك ، جامع المسانيد والمراسيل {3} سنن الترمذى عن ابن عباس {4} صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب ونص الحديث: «إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى: فَمَنْ كانتْ هِجْرَتُه إِلى دُنْيَا يُصِيبُها أَوْ إِلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُه إِلى ما هاجَرَ إِلَيه» {5} صحيح البخارى عن أنس
[/frame]